سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة الموقر: الأستاذ خالد المالك حفطه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فلقد اطلعت على مقالة نشرت في جريدتكم بالعدد 1154 في يوم الاحد 11/2/1424هـ ولما أعلم وأعرف عن سعادتكم من حرص على التواصل وإبداء الآراء والملاحظات وعدم حجبها وهذه مزية تذكر لكم فتشكر وأعتذر عن طول المقالة لأهمية الموضوع لاحتياجه لتأصيل شرعي فلقد قرأت ما خطه يراع الكاتب لديكم الأخ- الأستاذ حماد السالمي- هدانا الله وإياه إلى الحق فقد نشر الأخ مقالة في عموده الأسبوعي ملئت بالتندر والسخرية حول شخصية المواطن العراقي البسيط- أبو فقاش- وما فعله بالطائرة الأمريكية فبغض النظر عن صحة الخبر أو كذبه مما لا يليق بكاتب مسلم وبجريدة نالت استحسان الجميع بحضورها المميز وتطورها المذهل وليت الأخ حماد اقتصر على هذه المسألة لهان الخطب لكنه تجاوز إلى أبعد من ذلك عندما عصف بذاكرته لتعود به إلى تلك الأيام الخوالي أيام الجهاد الأفغاني وتطرق إلى ما حدث لهم من كرامات ووصفها بوصف لا يليق عندما قال عنها إنها خزعبلات ذلك أن وصف الكرامات وإنكارها فيه بُعْدٌ عن منهج أهل السنة والجماعة بل وسائر الفرق المنتسبة للإسلام كالأشاعرة والصوفية بل هو منهج أهل الاعتزال حمانا الله وإياكم من الولوغ فيه ولي مع هذه المقالة وقفات:
الوقفة الأولى: إن مقالة الكاتب لا تخلو من أمور 1- إما إنكار الكرامات مطلقا وهذا أمر مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة والأشاعرة والصوفية وغالب الفرق المنتسبة للإسلام والكرامة كما قال ابن أبي العز الحنفي في تعريفها:«فالمعجزة في اللغة تعم كل أمر خارق للعادة وكذلك الكرامة» «1». وقال البغدادي:«اعلم أن المعجزات والكرامات متساوية في كونها ناقضة للعادات» .
«2». وقال السفاريني:«الكرامة هي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة يظهر على يد عبدظاهر الصلاح علم بها ذلك العبد الصالح أو لم يعلم».
«3» فالكرامة أمر خارق للعادة يظهره الله عز وجل على أيدي أوليائه وعباده الصالحين وحزبه المفلحين وقد امتلأت كتب أهل السنة في إثبات هذا المعتقد قال الطحاوي رحمه الله «ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم».
«4» وقال شيخ الإسلام رحمه الله «وكرامات أولياء الله إنما حصلت لبركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم مثل انشقاق القمر وتسبيح الحصا في كفه وإتيان الشجر إليه».
«5» وقال أيضا:« وكرامات الصالحين تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسول لا تدل على أن الولي معصوم ولا على أنه يجب طاعته في كل ما يقوله».
«6» وقال أبو القاسم اللالكائي رحمه الله «سياق مادل من كتاب الله عز وجل وماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضى الله عنهم وماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضى الله عنهم والتابعين من بعدهم والمخالفين لهم رحمة الله عليهم في كرامة أولياء الله تعالى وإظهار الآيات فيهم ليزداد المؤمن إيمانا والمرتابون بها خسارا.
وروي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد فكان زكريا يقول {يّا مّرًيّمٍ أّنَّى” لّكٌ هّذّا قّالّتً هٍوّ مٌنً عٌندٌ اللهٌ إنَّ اللهّ يّرًزٍقٍ مّن يّشّاءٍ بٌغّيًرٌ حٌسّابُ (37)}
«8» والأدلة من الكتاب كثيرة وأما من السنة فهي أكثر وسأورد واحداً منها مختصراً وهو ما رواه مسلم في صحيحه وهو خبر جريج الذي كان يتعبد في صومعته وفيه «وكان راعي ضأن يأوي إلى دير فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاما فقيل لها: ممن هذا؟ قالت: من صاحب الصومعة. قال: فأقبلوا إليه بفئوسهم ومساحيهم فصوتوا به فصادفوه يصلي فلم يكلمهم فأخذوا يهدمون ديره فلما رأى ذلك نزل إليهم فقالوا له: سل هذه قال: فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟ فقال أبي راعي الضأن
«9» فأنطق الله المولود كرامة لهذا العبد وأما النماذج فهي أكثر من أن تحصى قال شيخ الإسلام رحمه الله «وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جداً مثل ما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حسين وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما» رواه البخاري وغيره.
«10» والنماذج أكثر من أن تحصى وليس هذا موضع سردها 2- وإن كان الاخ حماد بقوله هذا لا يقصد إنكار الكرامات مطلقاً، وهذا ما لا أظنه احساناً منى الظن به وإنما يقصد عدم تصديقه لما نقل عن كرامات الأفغان، فهذا أقل وطأة من الاحتمال الأول مع الرفض المطلق لظنه هذا، وأقول له: فما الغرابة أن يحصل لمن جاهدوا في ربى أفغانستان كرامات، وقد نقلها الثقات الأثبات، وأهل السنة والجماعة يقبلون بخبر الواحد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم طالما توفرت فيه صفات قبول الحديث، فكيف بخبر غيره وقد نقله عشرات الثقات فمن باب أولى قبوله فالكرامة يجريها الله جل وعلا لأوليائه من أجل التطمين والتثبيت، وزيادة اليقين، قال السهروردي- رحمه الله- «أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باب، والحكمة فيه أن يزيد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقيناً، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى.
«11» .«12».
فلماذا يستغرب أن يحدث للإخوة في أفغانستان كرامات وهم شعب مسلم قد سعت حكومة شيوعية للسيطرة على أرضه فدخل مسلمو أفغانستان هذه المعركة، وهم عزل من القوة أمام عدو آثم ملحد لا يعرف رحمة ولا رأفة ولا يدخر وسعاً للقضاء على الجهاد والمجاهدين فإنهم والحالة هذه في حاجة إلى تأييد الله عز وجل لهم بما يقوي قلوبهم ويثبت أقدامهم، فأجرى الله لهم من الآيات ما جعلهم يتحملون كل بلاء ويصبرون على كل مصيبة فقوم كتب الله عز وجل على أيديهم الجهاد وصبرهم على تحمل آثاره في نفوسهم وأهليهم سنوات طويلة قتل فيها آباؤهم وأطفالهم ونساؤهم وتعرضوا للتشريد والتدمير بشتى أنواع الأسلحة- قوم هذا وصفهم- ليس بكثير أن يظهر على أيديهم بعض الخوارق الربانية لتثبيتهم وتبشيرهم.فأي غرابة في ذلك خاصة وإن ظهور الكرامات على أيدي الصالحين قد ثبت بالدليل القاطع من القرآن والسنة.
قال شيخ الإسلام متعجباً من إنكارهم لما شاهدوه بأعينهم، والمنازع لهم بقول «هي موجودة مشهودة لمن شهدها، متواترة عند كثير من الناس، أعظم مما تواترت عندهم بعض معجزات الأنبياء، وقد شهدها خلق كثير لم يشهدوا معجزات الأنبياء، فكيف يكذبون بما شهدوه، ويصدقون بما غاب عنهم، ويكذبون بما تواتر عندهم، أعظم مما تواتر غيره «13».
الوقفة الثانية: ومن المعلوم إن إنكار الكرامات منهج المعتزلة الذين عرف عنهم تقديم العقل على النقل فلا يقبلون نصا إلا بعد عرضه على عقولهم وهذا وربي قمة الخبال وبينه وبين الحق خرط القتاد فما رد كرامات أولياء الله إلا معتزلي أو قدري أو من شذ وتبعهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- : فقالت طائفة: لا تخرق العادة إلا لنبي وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان، وبكرامات الصالحين.
وهذه طريقة أكثر المعتزلة وغيرهم، كأبي محمد بن حزم وغيره، بل يحكى هذا القول عن أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي محمد بن أبي زيد، ولكن كأن في الحكاية عنهما غلطاً.
«14» كذلك ورد ردّ الكرامات عن القدرية، وما أحسن قول البغدادي رحمه الله «وأنكرت القدرية كرامات الأولياء ولأنهم لم يجدوا في أهل بدعتهم ذا كرامة» «15».
ولذا أنكر الإمام الذهبي- رحمه الله- ما نسب لأبي إسحاق الإسفراييني من إنكار الكرامات فقال: وحكى أبو القاسم القشيري عنه أنه كان ينكر كرامات الأولياء ولا يجوزها، وهذه زلة كبيرة «16».
وما وصف الإمام الذهبي، ما حكي عن إنكار الإسفراييني بأنها زلة كبيرة إلا لعلمه بأنها منزلق خطر، لذا قال شيخ الإسلام رحمه الله عند ما نقل إليه قول الإسفراييني: لعل في الحكاية عنه غلطاً «17».
ومما يؤكد أن إنكار الكرامات خطأ جسيم دفاع السبكي عن الإسفراييني حيث قال: ويزداد تعجبي عند نسبة إنكارها «الكرامات» إلى أبي إسحاق الإسفراييني وهو من أساطين أهل السنة والجماعة، على أن نسبة إنكارها إليه على الإطلاق كذب عليه «18».
الوقفة الثالثة: الإنسان قد تحدث له كرامة وقد يضل بعدها، فالكرامة ليست تزكية مطلقة، فصاحب الكرامة بشر لا يؤمن تبدل حاله، فإن بلعام بن باعوراء أوتي من هذا الباب ما لم يؤت غيره ثم ختم له بالشقاء «19».
الوقفة الرابعة: إن من منهج أهل السنة والجماعة بأن الأمر الخارق للعادة ليس شرطاً أن يكون معجزة أو كرامة، فقد تخرق العادة لكذاب أشركما سيكون في آخر الزمان للدجال الأكبر، كما إن هناك فساقاً استخدموا الشياطين بعد أن أضلتهم فخرقت لهم العادات، فلا يسمى فعلهم كرامة، وفي كتب أهل العلم عشرات الحكايات عن مثل هؤلاء كغلاة المتصوفة، وما ذكرته آنفاً لايعني أن يصدق بكل كرامة، وليس كل من نقل خبراً، صادقاً فلا يقبل إلا خبر الثقة، وقد يحاول الشيطان إضلال بعض أهل الصلاح بإظهار كرامات لهم وقد ذكر شيخ الإسلام قصة عبدالقادر الجيلاني حيث قال: فمنهم من عصم الله وعرف أنه الشيطان كما للشيخ عبدالقادر في حكايته المشهورة حيث قال: كنت مرة في العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبدالقادر أنا ربك وقد أحللت ما حرمت على غيرك، قال: فقلت له: أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ أخسأ يا عدو الله، قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال : يا عبدالقادر، نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك، لقد فتنت بهذه القصة سبعين رجلاً، فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال: بقوله لي «أحللت لك ما حرمت على غيرك» وقد علمت أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ ولا تبدل، ولأنه قال أنا ربك، ولم يقدر أن يقول أنا الله الذي لا إله إلا أنا «20».
قال : أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال «صلى الله عليه وسلم»: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم إطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة، تركوا» «21».
وفي صحيح البخاري ومسلم: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة «22».
يقول النووي: هذا من صرائح الأدلة في عظيم فضل الشهادة والله المحمود المشكور «23».
وصح في السنن: عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله صلى الله على وسلم قال: للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه «24».
وفي حديث حسن صحيح في السنن أيضاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى عليه وسلم: ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة «25».
ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث الصحيحة التي تنوه بفضل الشهادة، وترفع من قدر الشهداء وتبرئهم من وصف ما نالوه بعبارة «الخزعبلات».
وفي الختام أقول لأخي حماد وغيره بأن الرجوع إلى الحق فضيلة، والحق أحق أن يتبع، وأظنه إن شاء الله بعد اتضاح الصورة سيحتاط لدينه ولنفسه ولن يسمح لها بأن تخوض في بحر لا تجيد السباحة فيه، وأنصحه بأن يركز على القضايا التي يجيدها، عسى الله أن يهدي قلوبنا، وما حصل من صواب فمن الله ومن حصل من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، فأستغفر الله وأعوذ به من الشيطان الرجيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
========================================
قاله وكتبه:أبوعبد الإله الدكتور/صَالحُ بْنُ مُقبِلٍ العُصَيْمِيَّ التَّمِيمِيِّ
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
والمشرف العام على موقع الشيخ صالح بن مقبل العصيمي التميمي
تويتر، وفيس بوك DrsalehAlosaimi@
الرياض - ص.ب: 120969 - الرمز: 11689
فاكس وهاتف: 012414080
البريد الإلكتروني: s555549291@gmail.com