|

30 جمادى الأول 1446 هـ

مسابقة السيرة النبوية | استمع في دقيقة وربع إلى: " الشرك الأصغر" للدكتور/ صالح بن مقبل العصيمي التميمي | يمكنكم الأن إرسال أسئلتكم وسيجيب عليها فضيلة الشيخ الدكتور صالح العصيمي

الْـخُطْبَةُ الأُولَى

  إنَّ الـحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا . أمَّا بَعْدُ ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

  عِبَادَ اللهِ، هُنَاكَ مَنْ فَهِمَ الْكَرَمَ فَهْمًا لَـمْ يَفْهَمْهُ حَتَّـى أَهْلُ الْـجَاهِلِيَّةِ فِي قِمَّةِ جَهْلِهِمْ؛ فَانْتَشَرَتْ مَظَاهِرُ مِنْ الإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، مَا كَانَ يَظُنُّ عَاقِلٌ أَنْ يَرَاهَا؛ فَرَأَيْنَا مِنْ صُوَرِ الِإسْرَافِ مَا يُدْمِي الْقُلُوبَ، وَيُبْكِي الْعُيُونَ، وَتَقْشَعِرُّ مِنْهُ الأَبْدَانُ، رَأْيْنَا مَشَاهِدَ مَأْسَوِيَّةً، وَمَنَاظِرَ مُـخْزِيَةً، لِأُنَاسٍ فَهِمُوا الْكَرَمَ عَلَى غَيْـرِ مَفْهُومِهِ الصَّحِيحِ، وَالْعَجَبُ لَيْسَ مِنْ سَفَاهَةِ عُقُولِـهِمْ، وَلَا قُبْحِ تَصَرُّفَاتِـهِمْ فَحَسْبُ؛ بَلِ الْعَجَبُ مِـمَّنْ رَضُوا مِنْ ضُيُوفِهِمْ بِـهَذَا الصَّنِيعِ الْمُخْزِي مِنْ مُضَيِّفِهِمْ، وَالرَّاضِي كَالْفَاعِلِ. أَلَـمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللهَ نَـهَى عَنِ الإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ؟ حَتَّـى فِي مَوْطِنِ إِيتَاءِ الْـحُقُوقِ، لأَصحَابِـها؟ حيثُ جاءَ النَّهيُ الصَّريحُ عنْ التبذِيرِ؛ قَالَ تَعَالَى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا). لَكِنْ مِنْ طَبِيعَةِ بَعضِ البَشَرِ التَّوسُعَ فِي النفقاتِ، وإهدَارَ الأَموَالِ عِنْدَ أَولِ شُعورٍ بالثَّرَاءِ؛ فَيُهدِرُونَ الأَمْوَالَ بِغَيْـرِ حَقٍّ؛ لأَنَّـهُمْ لَـمْ يَشْعُروا بِقِيمَتِهَا؛ فَيُبَالِغُ بَعْضُهُمْ فِي شِرَاءِ الأَطْعِمَةِ، وَيُسْرِفُ فِيهَا حَتَّـى يَكُونَ مَآلُـهَا إِلَى صَنَادِيقِ النِّفَايَاتِ، مُـخَالِفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). وَلقولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ» رَوَاهُ الْبُـخَارِيُّ.و(الْمَخِيلَةُ) هِيَ التَّكَبُّـرُ.

    عِبَادَ اللهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) فَالشَّيطَانُ لَا يُؤَدِّي حَقَّ النِّعمَةِ؛ لأَنَّهُ كَافِرٌ بِرَبِّهِ؛ فَسَلَكَ مَسْلَكَهُ إِخْوَانُهُ الْمُبَذِّرُونَ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ حَقَّ النِّعْمَةِ؛ فَالْغُلُوُّ فِي الْكَرَمِ حَتَّـى يَصِلَ بِصَاحِبِهِ إِلَى الإِسرافِ؛ كاَلغلُوِّ فِي البُخلِ والتقتيرِ. 

والإسرافُ انحرافٌ عنْ منهجِ الإسلامِ الوسطِيِّ، وَسيـرٌ علَى منهجِ الشيطانِ الإفسادِيِّ؛ فهُويةُ الشَّيَاطينِ والْمُبذِرينَ وَاحِدَةٌ، اتَّفَقُوا في صفاتِ الشَّرِّ.  وَأَمَّا الذِينَ أَنفقُوا فَتَوَسَّطُوا، فَقَدْ أَثْنَـى اللهُ عليهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، فَهُنَا حَثَّ الإسلامُ على الاعتدالِ والتوسُطِ؛ فالتوسُطُ فِي الإِنفَاقِ يُسْهِمُ فِي تطَوُّرِ الاقتصادِ، ونُـمُوِّ الْمالِ بِـخِلَافِ الإِمساكِ والإسرافِ، فَعَاقِبَةُ الـمُـسرفِ الْـخُسْرَانُ، نَاهِيكَ عَنْ أَنَّهُ مُلَامٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) فالْمُسْرِفُ أَتَى بِفِعْلٍ يُلَامُ عَلَيْهِ، وَيُؤَنَّبُ مِنْ أَجْلِهِ، مِنْ أَولَادِهِ وَأَهْلِهِ وَجِيـرَانِهِ، وأهلِ الخـيـرِ في بلدِهِ؛ بسببِ صنيعِهِ الْمُخزِي؛ فيُصبِحُ نَادِمًا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ: إِمَّا بِـمَا نَالَهُ مِنْ لَوْمٍ وَتَعْنِيفٍ وَتَوْبِيخٍ، وَإِمَّا بِـمَا أَصَابَهُ مِنْ عُقُوبَةٍ إِلـهِيَّةٍ تَنْزِلُ بِـمَالِهِ؛ فَيُصِيبُهُ الفقرُ والعَوَزُ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ لَا يستطِيعُ القِيامَ مُستقبَلًا بِـمَا أَسرَفَ فيهِ، فَالـحِمْلُ أَصبَحَ ثَقِيلًا عَلَيهِ، فَقَدْ أَلزَمَ نَفْسَهُ بِإلزامَاتٍ أَثْقَلَتْ كَاهِلَهُ، فَيُصبِحُ غَيرَ قَادِرٍ عَلَى الوَفَاءِ بِـهَا، بَلْ وَغَيَر قَادِرٍ عَلَى القِيَامِ بَأعبَاءِ نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ؛ فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا. 

    عِبَادَ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) 

فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الذِي أَنْعَمَ عَلينَا بِـهَذِهِ النِّعَمِ، وَلَا يُـحِبُّ مَنْ أَسْرَفُوا فِيهَا، بَلْ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَنَّـهُمْ يُـخَالِفُونَ سُنَّتَهُ فِيمَا فَطَرَهُمْ عَلَيهِ، وَشَرِيعَتَهُ بِإِتْيَانِـهِمْ مَا حَرَّمَهُ عَلَيهِمْ، وَبِـجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِإِضَاعَتِهِمْ أَمْوَالِـهُمْ فِي غَيـرِ مَا أَحَلَّهُ لَـهُمْ.

     عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الإسرافَ فيهَ ضَرَرٌ دِينيٌّ عَلَى صَاحِبِهِ؛ حَيثُ اِرْتَكَبَ مَا نَـهَى اللهُ عَنْهُ، فَانْـجَرَحَ دِينُهُ؛ فَلابُدَّ لَهُ مِنَ التَّوْبَةِ. وَضَرَرٌ عَقْلِيٌّ؛ فَحُسْنُ التَّدْبِيـرِ فِي الإِنْفَاقِ يَدُلُّ عَلَى عَقْلِ صَاحِبِهِ، وَالِإسرافُ يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ عَقْلِهِ، فَلَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ، أَوْ تَقِيٌّ، أَوْ مَنَ يَـخَافُ اللهَ. فَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا سَفِيهٌ لَا يُدْرِكُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ وَتَقَلُّبَاتِ الزَّمَانِ.

           يَطَأْنَ بِالطِّيـنِ وَالأَقْدَامُ حَافِيَةٌ             كَأَنَّـهَا لَـمْ تَطَأْ مِسْكًا وَكَافُورًا

والإِسرَافُ يَضرُّ بِالْمَعِيشَةِ؛ لأَنَّ فِيهِ إِتْلَافٌ لَـهَـا، وَيَضُرُّ بِالْمُجْتَمَعَ؛ بِتَعريضِهِ لِلْعُقُوبَاتِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). 

     عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ شَاهَدْنَا مَا لَا تَتَصَوَّرُهُ الْعُقُولُ، مِنْ مَنَاظِرَ مُؤْذِيَةٍ مِنْ سُفَهَاءَ جَهَلَةٍ، أَنْفَقُوا أَموَالَـهُمْ فِي مَعِصِيَةِ اللهِ، وَهُمْ يَـحْسَبُونَ أَنَّـهُمْ يُـحْسِنُونَ صُنْعًا. مَا كُنَّا نَتَخَيَّلَهَا يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ: فَذَاكَ يُرْغِمُ أَضْيَافَهُ عَلَى إِزَالَةِ آثَارِ الطَّعَامِ بَالأَطْيَابِ بِغْضِّ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِـهَا جَيِّدَةً أَو رَدِيئَةً، غَالِيَةً أَو رَخِيصَةً؛ فَلَقَدْ وَضَعَ الأَطْيَابَ فِي غَيـرِ مَوْضِعِهَا، نَاهِيكَ عَنْ أَنَّـهَا لَا تَفِي بِالْغَرَضِ، وَلا تُزِيلُ الضَّرَرَ، وَقَلِيلُهَا - بَعْدَ إِزَالَةِ الأَدْرَانِ وَفِي مَوْضِعِهِ الصَّحِيحِ- أَنْفَعُ مِنْ كَثِيـرِهَا؛ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الـْمُسْرِفَ وَضَعَهَا فِي غَيـرِ مَوْضِعِهَا؛ ظَانًا أَنَّهُ بِذَلِكَ يَـجْلِبُ الْمَحَامِدَ، فَعُومِلَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَلَمْ يُـحْمَدْ عَلَى فِعْلِهِ، بَلْ مَجَّ فِعْلَهُ الصِّغَارُ والكِبَارُ، وَالْـحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيـنَ. وَآخَرُ يُرْغِمُ أَضْيَافَهُ عَلَى أَلَّا يَـجْلِسَ أَحَدٌ مَعَ أَحَدٍ عَلَى صَحْنٍ وَاحِدٍ، فِي مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الإِسرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، وَمَا عَلِمَ أَنَّ مَا صَنَعَهُ مُـخَالِفٌ للسُّنَّةِ، نَاهِيكَ عَمَّا فِيهِ مِنْ إِسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ – رِضْوَانُ اللهُ عَلَيْهِمْ-  يَـجْتَمِعُونُ عَلَى الصَّحْفَةِ، كَمَا فِي الْـحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَنَشَرَتْ إِحْدَى الصُّحُفِ مُنْذُ فَتْـرَةٍ خَبَـرَ رَجُلٍ يُعَطِّرُ أَضْيَافَهُ بِطَرِيقَةٍ تَدُلُّ عَلَى سَفَهٍ؛ حَيْثُ يَسْكُبُ عَلَيْهِمُ الأَطْيَابَ بِالْمَغَارِفِ الضَّـخْـمَةِ الْمُعَدَّةُ للطَّعَامِ، بِكَمِّيَّاتٍ هَائِلَةٍ، وَالْعَجِيبُ أَنَّهُ فِي نِـهَايَةِ اللِّقَاءِ مَعَهُ يَشْكُو مِنْ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَـمْلُكَ وَسِيلَةً لإِيصَالِ أَوْلَادِهِ إِلَى مَدَارِسِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ؛ إِلَّا سَيَّارَةً وَاحِدَةً مُتَهَالِكَةً، وَصَدَقَ اللهُ: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)، وَصَدَقَ مَنْ قَالَ:

ثَلَاثَةٌ فِيهِنَّ لِلْمُلْكِ التَّلَفْ              الظُّلْمُ وَالإِهْمَالُ فِيهِ وَالسَّرَفْ

وَرَجُلٌ يَنْثُرُ عَلَى أَضْيَافِهِ أَكْيَاسَ الْـهِيلِ، وَيَضَعُهَا بِالطُّرُقَاتِ وَالْمَمَرَّاتِ؛ لِيَدُلَّـهُمْ عَلَى كَرَمِهِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: إِسْرَافِهِ وَتَبْذِيرِهِ؛ فَوَضَعَهَا فِي غَيـرِ مَوْضِعِهَا، جَرِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الإِدْرَاكِ، والِإسرَافِ وَالْمَـخِيلَةِ.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّنَا -وَللهِ الْـحَمْدُ- فِي مُـجْتَمَعٍ إِسْلَامِيٍّ وَاعٍ، نَبَذَ فِيهِ الْـجَمِيعُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَبِيحَةَ، وَمَا أُعْجِبَ بِـهَا أَحَدٌ حَسْبَ عِلْمِي وَاِطِّلَاعِي، وَالعَاقِلُ يَـحْذَرُ مِنْ مُـجَارَاةِ السَّفِيهِ: 

فَاترُكْ مُـجَارَاةَ السَّفِيهِ فَإِنَّـهَا               نَدَمٌ وَعَيْبٌ بَعْدَ ذَاكَ وَخِيمُ

فِإِذَا جَرَيْتَ مَعَ السَّفِيهِ كَمَا جَرَى           فَكِلَاكُمَا فِي جَرْيِهِ مَذْمُومُ

عِبَادَ اللهِ، الْـحَذَرَ الْـحَذَرَ مِنَ الإِسرَافِ! وَاللهَ اللهَ فِي الاِعْتِدَالِ، وَكَمَا

قَالَ عَلِي ٌّرَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَا أَنْفَقْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ فِي غَيـرِ سَرَفٍ وَلَا تَبْذِيرٍ، وَمَا تَصَدَّقْتَ بِهِ؛ فَهُوَ لَكَ، وَمَا أَنْفَقْتَ رِيَاًء وَسُـمْعَةً فَذَاكَ حَظُّ الشَّيْطَانِ)(). 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

    الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى .    

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ عَلَى الْمُجْتَمَعِ جَاهِدًا أَنْ يَقْضِيَ عَلَى ظَاهِرَةِ الإِسْرَافِ الَّتِـي تَـجَاوَزَتْ حَدَّهَا، وَخَاصَّةً فِي الْوَلَائِمِ وَحَفَلَاتِ الزِّفَافِ، وَزِدْ عَلَيْهَا مَا يُسَمَّى بِـحَفَلَاتِ التَّخَرُّجِ الَّتِي يَتَنَافَسُ فِي إِقَامَتِهَا الطُّلَّابُ وَالطَّالِبَاتُ؛ فَتُهْدَرُ أَمْوَالٌ طَائِلَةٌ فِي مَظْهَرِيَّةٍ زَائِفَةٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهَ!

فَالْـحَذَرَ الْـحَذَرَ مِنْ وَضْعَ مَالِ اللهِ فِي غَيْـرِ مَوْضِعِهِ.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. 

لَا تُبَذِّرْ وَإِنْ مَلَكْتَ كَثِيـرًا                     فَزَوَالُ الْكَثِيـرِ بالتَّبْذِيرِ

قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى               وَلَا يَبْقَى الْكَثِيـرُ مَعَ الفَسَادِ

عِبَادَ اللهِ، لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِ إِهْدَارُ الأَمْوَالِ؛ وَلَوْ كَانَتِ الأُمَّةُ كُلُّهَا فِي نَعِيمٍ، فَكَيْفَ وَفِيهَا مُشَرَّدُونَ مَـحْرُومُونَ، لَا يَـجِدُونَ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُمْ، وَيَسْتُـرُ عَوْرَتَـهُمْ ؟ فَهَذَا أَشَدُّ بِتَحْرِيـمِ الإِسْرَافِ، وَأَوْلَى بِالتَّحْذِيرِ مِنْهُ. فَالْـحَذَرَ الْـحَذَرَ مِنْ إِهْدَارِ الْمَالِ بِغَيْـرِ حَقٍّ؛ فَالأَخْطَارُ تُـحِيطُ بِنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالنُّذُرُ تَأْتِينَا، وَالْمُسْرِفُونَ عَنْهَا غَافِلُونَ. وَلْنَعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ تُتُخَطَّفُ مِنْ حَوْلِنَا، وَالْـجُوعَ يَلُفُّهُمْ مَعَ أَنَّـهُمْ لَدَيهِمْ نِفْطٌ وَجَنَّاتٌ وَأَنْـهَارٌ، فَلَابُدَّ مِنَ العْبـرَةِ وَالِاتِعَاظِ. حَـمَا اللهُ بِلَادَنَا مِنَ الْفِتَـنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ وَفَّقَ اللهُ هَذِهِ الدَّوْلَةَ الْمُبَارَكَةَ لِوَضْعِ حَدٍّ لِـهَذِهِ الْمَظَاهِرِ الزَّائِفَةِ؛ فَتَوَلَّتِ الرِّئَاسَةُ الْعَامَّةُ، لِـهَيْئَاتِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ- بَارَك َاللهُ فِي جُهُودِهَا- بِوَضْعِ حَدٍّ لِـهَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالنِّظَامِيَّةِ؛ فَلَابُدَّ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَهَا، حَتَّـى تَنْجَحَ فِي مَهَمَّتِهَا، وَتَـحْمِيَ الْمُجْتَمَعَ مِنْ شَرِّ هَؤُلَاءِ الأَشْرَارِ، أَهْلِ الْبَطَرِ والإِسْرَافِ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَـمِيلًا، وَلَا تَـجْعَلْ فِينَا وَلَا بَيْنَنَا وَلَا حَوْلَنَا شَقِيًّا وَلَا مَـحْرُومًا، الَّلهُمَّ اِصْلِحْ لَنَا النِّــيَّــةَ وَالذُّرِيَّةَ وَالأَزْوَاجَ وَالأَوْلَادَ. الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَاِقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ وَلِّ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَاِكْفِهِمْ شَرَّ شِرَارِهِمْ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَادِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا،وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ اُنْصُرِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى حُدُودِ بِلَادِنَا، وَاِرْبِطْ عَلَى قُلُوبِـهِمْ، وَثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ، وَانصُرْهُمْ عَلَى الْقَوْمِ الظَّالِمِيـنَ وَاخْلُفْهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ بِـخَيْـرٍ. اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرَ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. وَقُومُوا إِلَى صَلَاتِكمْ يَرْحَـمـْكُمُ اللهُ.