أعجبني والله ليس مجاملة ما خطه يراع الأستاذ محمد العبدي مدير التحرير في صحيفة الجزيرة عندما كتب مقالاً منذ فترة بعنوان: (إنهم يشربون) فلم يُفهم منه أنه قصد شخصاً بعينه، وهذا هو الواجب على المسلم أن يتقي الله ولا يفضح أهل الإسلام ولا يذكر مخازيهم ولا مساويهم لا عبر الصحف ولا غيرها، بل الواجب عليه الستر، وأما الذي لا يلزمه الستر فهم رجال الأمن والهيئات الذين أناط بهم ولي الأمر المسؤولية، فهؤلاء عليهم إيصال المذنبين إلى الجهات المسؤولة، أما بقية الناس فهم يُنهون عن الفضح إذا وقع الذنب من شخص بعينه على نفسه، أما من حوّل بيته أو استراحته ليفسد نفسه وغيره، فهؤلاء لا يُستر عليهم ولا كرامة لهم، أما من أذنب ذنباً خاصاً فواجب المسلم نحوه النصح والتوجيه، أما إذا فضحه فهو مهدد من الله بالفضح لأنه فضح غيره، فكيف إذا كان الخبر غير صحيح أو فيه مبالغة فهذا جمع من الفضح الإفك والكذب والبهتان لأن كثيراً من الناس يصدقون الخبر بمجرد وروده دون أن يتأكدوا من مصدره وصحته، وكم سمع الناس أن فلانا قد فسق أو فجر، وغالب هذه الأخبار شائعات لا أساس لها من الصحة، ويبدأ بعضهم بتناقلها والترويج لها عبر الصحف أو مواقع الإنترنت أو وسائل الإعلام الأخرى دون التثبت من صحتها، فلو كانت صحيحة لما جاز له ذلك فكيف لو كانت غير صحيحة؟ وهذا مصداق قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (1) لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول.. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} أن تقذفوا عرض أخيكم، وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ومحبيه. {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تُزلزلُ له الرواسي، وتضج منه الأرض والسماء، ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب بمجرد سماعه، وأن تحرج بمجرد النطق به، وأن تنكر أن يكون هذا موضعاً للحديث: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }، وعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزها هزاً وهي تطلعها على ضخامة ما جنت وبشاعة ما عملت.. وعندئذ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}(2)، وإنك لتعجب من هذه السرعة في النقل مع هذا التحذير الواضح والتهديد الصريح من الله للمتعجل، لأن الله أمر بطلب بيان الحقيقة ومعرفة صدق الخبر عند نقله فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(3) وهذه الآية قاعدة أساسية للأمة أفراداً وجماعات، بألا يقبلوا من الأخبار التي تنقل إليهم ولا يعملوا بمقتضاها إلا بعد التثبت والتبين حتى لا يصيبوا الأفراد والجماعات بسوء، إن هذه الآية تضع منهجاً للمسلم إذا أراد السلامة يوم يلقى الله، بل وإذا أراد أن يمد الله عليه ستره في الدنيا والآخرة ولا يفضحه في جوف بيته، أو ما يرد ويزجر العاقل من أهل الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: (بئس مطية الرجل زعموا)(4)، فعندما تذكر على الملأ أخطاء وفضائح مسلم فقد آذيته، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لما سئل: أي الإسلام أفضل؟: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)(5)، فهل هذا المسلم الذي شهرت به قد سلم من لسانك وإيذائك؟ ووالله كم من إنسان ذكر من أناس بسوء ثم ظهر لهم خلاف ذلك. فالواجب على المسلم الكف عن هذا الخلق السيئ الذي لا تحمد عقباه يوم القيامة إلا إن تاب أو رحمه الله، وقد ورد النهي عن التجسس صراحة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(6) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}(7)، فالتجسس المنهي عنه في الآية الكريمة هو: تتبع عورات المسلمين وغيرهم، ومحاولة الوصول إلى معرفتها لإشباع دافع نفسي أو غرض معين. إن التجسس المؤدي إلى فضح العورات لا تسمح به الشريعة الإسلامية بحال من الأحوال. ولذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الخلق المشين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة حتى أسمع العواتق في خدورهن فقال: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه: لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته)(8)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)(9)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)(10)، والمخاطب هنا غير رجال الأمن وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقهم الله لكل خير، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ستر على مؤمناً عورة فكأنما أحيا موؤدة)(11). السبق الصحفي ليس مبرراً للفضح والتشهير يا أهل الإسلام
أخي القارئ: انظر إلى موقفه صلى الله عليه وسلم من صحابي لم يستر على أخ له حيث أخرج أحمد في المسند وغيره عن نعيم بن هزال: أن هزالاً كان قد استأجر ماعزاً بن مالك وكانت له جارية يقال لها: فاطمة، قد أملكت، وكانت ترعى غنماً لهم، وأن ما عزاً وقع عليها، فأخبر هزالاً فخدعه، فقال: انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، عسى أن ينزل فيك قرآن، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك يا هزال، لو كنت سترته بثوبك كان خيراً لك)(12)، ولم يقل خيرٌ له لأن الأجر العظيم سيكون للساتر على أخيه المسلم. وفي رواية: (يا هزال، أما لوكنت سترته بثوبك، لكان خيراً مما صنعت به)(13)، ولقد طبق الصحابة هذا المنهج بالبعد عن البحث عن مواطن عورات الناس طالما أنهم ليسوا أهل سلطة ورجال هيئة، وعدم سبهم والشماتة بهم وسؤال الله السلامة والستر عليهم، وانظر إلى هذا الخبر وتأمل ذلك وهو أن أبا الدرداء رضي الله عنه مر على رجل قد أصاب ذنباً فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا نبغضه؟ قال إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي)(14). وقال أبو بكر رضي الله عنه: (لو أخذت سارقاً لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت شارباً لأحببت أن يستره الله عز وجل)(15). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا، إلا ستره الله يوم القيامة)(16). وقال العلاء: (لا يعذب الله قوماً يسترون الذنوب)(17). وقال عوف الأحمسي: (من سمع بفاحشة فأفشاها، كان فيها كمن بدأها)(18). ويشمل هذا من نشر الخبر بالصحف والإنترنت وغيرهما ومن طلب من غيره الاطلاع عليها. وقيل لابن مسعود رضي الله عنه: (هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن أن يظهر لنا شيء نأخذ به)(19). والذي أريد أن أخلص إليه: أن على المسلم أن يحرص على ستر أخيه، وعدم فضحه على رؤوس الأشهاد لا باسمه ولا برمزه.
لا تهتكن من مساوئ الناس ما سترا فيهتك الله ستراً عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك (20)
فهناك مع الأسف من يقوم بالتشهير بأخيه المذنب ويقوم بتتبع عورته ونشر زلته بين الناس، وكتب سعيد بن جبير إلى أبي السوار العدوي: (أما بعد يا أخي فاحذر الناس واكفهم نفسك، والزم بيتك، وابك على خطيئتك، وإذا رأيت عاثراً فاحمد الله الذي عافاك، ولا تأمن الشيطان أن يفتنك ما بقيت)(21).
وفي الختام أسأل الله لكم التوفيق، كما أسأله أن يمدد عليَّ وعلى إخواني المسلمين ستره في الدنيا والآخرة، كما أشكر لجريدة الجزيرة تعاونها الدائم معي ومع غيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******
(1) سورة النور, آية 15 .
(2) سورة النور، آية 5 .
(3) سورة الحجرات، آية 6 .
(4) أخرجه أبو داود حديث رقم (5-254) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (3-4972) وانظر الصحيحة (2-548).
(5) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان حديث رقم (10) ومسلم حديث رقم (40).
(6) سورة الحجرات، آية 12 .
(7) سورة النور، آية 19 .
(8) أخرجه أبو داود حديث رقم (4880) أخرجه أبو يعلى في مسنده (3-237) رقم (1685)، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان 17-152 (9213)، واللفظ له، وقال محقق الشعب: (إسناده صحيح كما صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (7861) وفي الصحيحة حديث رقم (2064).
(9) أحرجه ابن ماجه حديث رقم (2546) وأخرجه المنذري في الترغيب والترهيب وقال: إسناده حسن 3-239 الجزء الأول من الحديث عند أبي داو (4893) من حديث ابن عمر وبعض الحديث عن مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
(10) أخرجه البخاري في كتاب المظالم باب لا يظلم المسلم مسلما حديث رقم (2442) وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم حديث رقم (2580).
(11) رواه الطبراني في الأوسط (2337) وقال الألباني صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (2337).
(12) اخرجه أحمد في المسند 36-218 حديث رقم (21891) وأخرجه أبو داود حديث رقم (4377) وقال شعيب في الموسوعة: صحيح لغيره 36-218 وقوله فخدعه هزال لأن هزال كان يعلم حد الزنا ويدري أنه إذا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم سيقيم عليه الحد.
(13) أخرجه أحمد في مسنده 36-220 حديث رقم 21893 وقال شعيب صحيح لغيره، انظر الموسوعة (36- 220).
(14) أخرجه عبدالرزاق في مصنفه برقم 20267 والبيهقي في شعب الإيمان برقم 6264 وقال محقق الشعب إسناده حسن (12-80).
(15) أخرجه عبدالرزاق في المصنف (10-227).
(16) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب بشارة من ستر الله تعالى عليه في الدنيا بأن يستر عليه في الآخرة حديث رقم (2590).
(17) المرجع السابق (ص502).
(18) الزهد لوكيع (3- 768).
(19) انظر سنن أبي داود حديث رقم (4890) والمصنف لعبدالرزاق (18945) وسنن البيهقي (8-224)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (9-199).
(20) انظر الجامع لشعب الإيمان (17-155).
(21) انظر الجامع لشعب الإيمان 12-87 برقم (6272).
قاله وكتبه:أبوعبد الإله الدكتور/صَالحُ بْنُ مُقبِلٍ العُصَيْمِيَّ التَّمِيمِيِّ
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
والمشرف العام على موقع الشيخ صالح بن مقبل العصيمي التميمي
تويتر، وفيس بوك DrsalehAlosaimi@
الرياض - ص.ب: 120969 - الرمز: 11689
فاكس وهاتف: 012414080
البريد الإلكتروني: s555549291@gmail.com