حدث لي مع رجل ينحى كما يزعُم أنه يسلك المسلكَ العقلاني، فدار بيننا حوار حول حديث إذا وقعَ الذباب في الإناءِ ونصُّه: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” إذَا وقع الذُّباب في إنَاء أحدكُمْ فليَغْمسْهُ كلَّهُ، ثمَّ ليطْرَحْهُ، فإنَّ في أحدِ جناحَيْهِ شفاءً وفي الآخر داء ”.1 فأنكره سائراً على نهج أسلافه الذين طعنوا في هذا الحديث2 فكان يقول لي: إن هذا الحديث لا يمكن أن يصدر من الرسول – صلى الله عليه وسلم – لأن في هذا الحديث كما يزعُم وساخةً وقذارة، فبينت له ما يلي: -
أ – أن هذا الحديث ثابتٌ في صحيح البخاري، وأن الأمة قد تلقته بالقبول ولا مجال للطعن في أحاديثه، فطالما ثبت هذا عن محمد – صلى الله عليه وسلم – فعلى الأمة أن تسمع وتطيع.
ب – قلت له أيضا: مم نقمت من الحديث؟ فقال إن النفس لا تتقبل مثل هذا، ولا يمُكن أن يصدر هذا من محمد – صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أرحم بالأمة وأكد في هذا الحديث أن في الذُباب ضررا ولكن الضرر يوُجد في جناحٍ منه وإن في الجناح الآخر علاجٌ لهذا الضرر فطالما أن من أخبرنا بالغيب قد بلغنا أن الله قد رحم الأمة فجعل في هذا الذباب علاجا لضرره من ضرره فلا إشكال.
ج – ثم قلت له: إنك ترفض الحديث في عقلك وأنا سأبين لك أن عقلك قاصر، وستحكم على عقلك بنفسك، فقال لي: كيف؟ فقلت له: هل الحديث يُقبل عندك لو جاء بلفظ إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليهرقه، فقال: نعم، هذا ما ينسجم مع ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: فلنطبق الحديث على ما تراهُ صحيحاً من وجهة نظرك (فليهرقه) فلننظر هل هذا ينسجم مع يُسر الإسلام وسماحته أم أن فيه آصاراٌ وأغلالا فقال لي: كيف؟
د – فقلت له: لو كان الحديثُ كما تزعم، يصح بلفظة (فليهرقه) لوجدنا الإسلام قد شقَّ على الناس، فالذُّباب وخاصةً في جزيرة العرب جزءٌ من حياتهم قلّ أن ينفك عنه، فلو كان الحديث كما تزعُم لما استطاعوا أن يشربوا ماءً ولا شراباً ولا لبناً، ولا عسلا، فما إن يفتح قربة الماء إلا ويُحيط بها الذباب من كل جانب وما إن يسكُبه في الإناء إلا وأحاط به الذباب من كل جانب، وهكذا سيسكب ما في القربة في الأرض وسيُهرق ما في الإناء في الأرض، فلا يستطيعُ أن يشرب منه، بل كلما أخرجه من البئر أحاط به الذباب، فيقوم بإهراقه حتى لا يشرب منه إلا مضطرا، فهل تعتقد أن هناك مشقة أعظم من هذه المشقة.
هـ – بل هب أن أحداً اشترى له إناء مُلئ بالعسل أو بالسمن غالي الثمن وما إن فتح إلا ووقع الذُباب فيه، أتُرى أيها الأستاذ العاقل أنك ستهرقه أم أنك ستعيُد النظر في فهم حديث محمد – صلى الله عليه وسلم؟
و – إنك أيها العقلاني بزعمِك قد فقدت جزءاً من عقلك، فنظرت إلى المسألة على أنها متعلقةً بكوبٍ من الماءِ أو الشاي، حيث يكثرُ في زمانك فلا تجد غضاضةً في إهراقه، أما لو كنُت في منطقةٍ عزَّ فيها الماءَ، أو كان وقوُع الذباب في شيءٍ غالي الثمن عندك لما ترددت لحظة في أن تغمسه، ولوجدناك تمتنعُ أن تهرقه، فلقد قست الأمور بعقلك من زوايا ضيقة.
ز – ثم قلت له: إن الإسلام لم يبعث الله به محمدا – صلى الله عليه وسلم – إلى الحاضرةِ فقط، أو المناطق التي عزَّ فيها الذُباب وندر، بل أرسله الله إلى العالمِ بأسره، وإلى الدُنيا من زمنه إلى أن تقوم الساعة، شاملا كل زمانٍ ومكان، فيراعي أحوال الجميع، فلا تقس الأمور بمنظارك، بل إننا نجد أن بعضاً من أهل العلم اجتهدوا في مسألةِ ”وقوع الفأر في السمن وغيره” هل ينجسه أم لا؟ لأن في الحكم بنجاسته نوعا من المشقة فبحثوا عن تأويلاتٍ ومخارج مراعاةً منهم لأحوال الناس.
ح – ثم قلتُ له: إن الحديث لم يوُجب عليك أن تشربَ ما في الإناء إذا وقعَ فيه الذباب، إن الأمر الذي يجبُ أن تخضع له هو أن تغمسه في الإناء، فإن الغمس قد أزال الضرر والخطر، ومن ثم بعد ذلك فمسألة أنك تشربُه أو لا تشربهُ تعودُ لك، بل لم يوجب عليك الإٍسلام أن تأكل شيئاً معينا، أو أن تشربَ شيئاً معينا؛ وإني على ثقة أنه لو وقع في شيء غال عندك لغمسته ولم تقزز من ذلك، لأنك هنا ستنظر إلى مصلحتك.
ط – ثم قلت له: واللهِ لو غابت عنا العلل ولم نفهم فعلينا الخضوع لأمر الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، فعقولنا أقصر عن معارضة أقواله صلوات ربي وسلامُه عليه.
قاله وكتبه: أبوعبد الإله الدكتور/صَالحُ بْنُ مُقبِلٍ العُصَيْمِيَّ التَّمِيمِيِّ
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
والمشرف العام على موقع الإسلام نقي
تويتر، وفيس بوك DrsalehAlosaimi@
الرياض - ص.ب: 120969 - الرمز: 11689
فاكس وهاتف: 012414080
البريد الإلكتروني: s555549291@gmail.com