|

19 رمضان 1445 هـ

مسابقة السيرة النبوية | استمع في دقيقة وربع إلى: " الشرك الأصغر" للدكتور/ صالح بن مقبل العصيمي التميمي | يمكنكم الأن إرسال أسئلتكم وسيجيب عليها فضيلة الشيخ الدكتور صالح العصيمي

 

الخطبة الأولى

    إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا . أمَّا بَعْدُ ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .

عِبَادَ اللهِ، نَقِفُ مَعَكُمُ الْيَوْمَ لِنَتَدَبَّرَ سُورَةَ النَّبَأِ، حَيْثُ بَدَأَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: 

(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) أَيْ: مَا هُوَ الأَمْرُ الَّذِي أَصْبَحَ حَدِيثَ السَّاعَةِ عِنْدَ الْـمُشْرِكِيـنَ؟ حَتَّـى أَصْبَحَ لَا يَـخْلُو مَـجْلِسٌ مِنْ مَـجَالِسِهِمْ مِنْ الْـحَدِيثِ عَنْهُ.

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ): إِنَّهُ الْـحَدِيثُ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنُبُوَّتِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَالْمِعَادِ، وَأَنَّ هُنَاكَ جَنَّةً وَنَارًا؛ لَقَدْ أَذْهَلَهُمْ ذَلِكَ النَّبَأُ.

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): حَيْثُ تَبَايَنَتْ مَوَاقِفُهُمْ مِنْ هَذَا النَّبَأِ. وَاخْتِلَافُهُمْ يَدُلُّ عَلَى بَاطِلِ الْمُنْكِرِينَ فِي رَدِّهِ، فَهُنَاكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ مَا يَقُولُهُ مُـحَمَّدٌ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِحْرٌ، وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ: كَهَانَةٌ، وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ: كَذِبٌ.

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) جَاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِأسلوبِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ الْقَوِيِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ؛ وَأَنَّـهُمْ سَيَعْلَمُونَ الْـحَقِيقَةَ عِنْدَمَا يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ. ثُـمَّ ذَكَرَ اللهُ الآيَاتِ الدَّالَةَ عَلَى قُدْرَتِهِ؛ فَمَا الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ بِشَيْءٍ أَمَامَ آيَاتِهِ الْعِظَامِ؛ فَذَكَرَ مِنْهَا:

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا): أَلَا تَرَوْنَ هَذِهِ الأَرْضَ مُـمَهَّدَةً، فَمَنِ الَّذِي مَهَّدَهَا؛ حَتَّـى يَسْتَقِرَّ الإِنْسَانُ عَلَيْهَا، وَيَرْتَاحَ بِعَمَلِهِ وَنَوْمِهِ؟ وَهِيَ مُهَيَّأَةٌ للسُّكْنَـى، وَالسَّيْـرِ عَلَيْهَا؟ فَلَوْ لَـمْ يَكُنْ هُنَاكَ خَالِقٌ مَهَّدَهَا؛ لَـمَا كَانَ بِاستِطَاعَةِ أَحَدٌ الثَّبَاتُ عَلَى ظُهُورِهَا، وَتَثْبِيتُ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا.

 (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) وَانظُرُوا إِلَى عِظَمِ خَلْقِ الْـجِبَالِ، الَّتِـي لَابُدَّ مِنْهَا لِتَثْبِيتِ الأَرْضِ حَتَّـى تَسْتَقِرَّ، وَلَا تَرْتَّجَ؛ فَمَنِ الَّذِي خَلَقَهَا؟

(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا): أَلَا يُثِيـرُ اِنْتِبَاهَكُمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ تَتَكَوَّنُ مِنْ زَوْجَيْـنِ: ذَكَرٌ وَأُنْثَـى؛ حَتَّـى تَسْتَمِرَّ الْـحَيَاةُ، وَتَتَعَاقَبَهَا الأَجْيَالُ بَعْدَ الأَجْيَالِ، فَلَوْ كَانْتْ جَـمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ إِنْسٍ وَحَيَوَانٍ ذُكُورًا فَقَطْ، أَوْ إِنَاثًا فَقَطْ؛ لَفَنِيَتْ سَرِيعًا. أَلَا يَلْفِتُ اِنْتِبَاهَكُمْ أَنَّ الَّتِـي تُنْجِبُ هِيَ الأُنْثَى فَقَطْ؟ وَلَا يُـمْكِنُ أَنْ تَنْجِبَ إِلَّا بِتَلْقِيحٍ مِنْ ذَكَرٍ؟ هَلْ أَتَى هَذَا التَّقْسِيمُ مُصَادَفَةً فِي جَـمِيعِ الأَجْنَاسِ؟ لَوْ كَانَ هَذَا بِفِعْلِ طَبِيعَةٍ- كَمَا تَزْعُمُونَ- لَـحَدَثَتِ الأَخْطَاءُ، وَلَتَبَدَّلَتِ الأَدْوَارُ؛ وَلَكِنَّهُ صُنْعُ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ.

(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا): فَالنَّوْمُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلَّا مَنْ حُرِمَ مِنْهَا، خَلَقَهُ اللهُ لإِرَاحَةِ الأَجْسَادِ الْمُنْهَكَةِ، وَالأَذْهَانِ الْمُتَشَتِّـتَةِ، وَتَـجْدِيدًا للنَّشَاطِ وَالْـحَيَوِيَّةِ؟ 

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا): حَتَّـى يُغَطِّيَ الْكَوْنَ بِالسَّوَادِ، وَالظَّلَامِ الدَّامِسِ؛ وَيَسْتُـرَهُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْبَعِثَ الرَّاحَةُ وَالْـهُدُوءُ؛ أَلَا تَرَونَ اللَّيْلَ يَأْتِي وَيَذْهَبُ فِي وَقْتٍ مُـحَدَّدٍ؟ فَلَو كَانَ مِنْ غَيْـرِ اللهِ؛ لاضطَرَبَتِ الأُمُورُ، وَلَتَصَادَمَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ؛ وَلَا يُـمْكِنُ لأَيِّ قُوَّةٍ فِي الْعَالَـمِ مَهْمَا بَلَغَتْ أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّ بِـمِقْدَارِهَا تَصْرِيفَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَوِ الشَّمْسِ والقَمَرِ. وَمَنْ حِكَمَ أَنَّ الظَّلَامَ فِي اللَّيْلِ: لأَنَّهُ الْوَقْتُ الطَّبِيعِيُّ للنَّوْمِ؛ حَتَّـى يَرْتَاحَ الإِنْسَانُ. وَعَامَّةَ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَنَامُونَ إِلَّا فِي الَّليْلِ، بَلْ وَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَنَامُوا بِالنِّهَارِ؛ حَوَّلُوا أَمَاكِنَ نَوْمِهِمْ إِلَى شَبِيهٍ بِالَّليلِ؛ بِإِغْلَاقِ جَـمِيعِ الأَنْوَارِ وَالنَّوَافِذِ؛ حَتَّـى يَعِيشُوا عِنْدَ نَوْمِهِمْ بِالنِّهَارِ بِظَلَامٍ دَامِسٍ.

(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا): خَلَقَ اللهُ النَّهَارَ للعَمَلِ، وَكَسْبِ الْمَعَاشِ؛ وَمَيَّزَهُ بِضَوْءِ الشَّمْسِ، لأَنَّ غَالِبَ الْبَشَرِيِّةِ أَعْمَالُـهُمْ بِالنِّهَارِ؛ وَيَـحْتَاجُونَ إِلَى ضَوْءٍ فِي النِّهَارِ، الَّذِي لَا يُـمِكِنُ للإِضَاءَاتِ الصِّنَاعِيَّةِ أَنْ تَبْلُغَ عُشْرَ مِعْشَارِهِ.

(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا): أَلَا تَرَوْنَ عِظَمَ هَذِهِ السَّمَاءِ الْمَتِينَةِ، قَوِيَّةِ الْبِنَاءِ؟ لَا شُقُوقَ فِيهَا، وَلَا ثُقُوبَ، وَلَا أَعْمِدَةَ، مَعَ بُعْدِ اِرْتِفَاعِهَا، وَقُوَّةِ سَـمَاكَتِهَا، مَنِ الَّذِي رَفَعَهَا؟ فَالْبَشَرِيَّةُ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرْفَعَ عَنِ الأَرْضِ مِلِّيمِتْـرَاتٍ فِي سَنْتِيمِتْـرَاتٍ بِدُونَ عَمَدٍ؛ فَكَيْفَ بِـمِثْلِ حَجْمِ السَّمَاءِ؟! فَمَنْ قَدِرَ عَلَى رَفْعِ السَّمَاءِ مَعَ عِظَمِهَا بِغَيْـرِ عَمَدٍ تَرَوْنَـهَا، وَخَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ والأَزْوَاجَ؛ لَيْسَ بِعَاجِزٍ عَنْ إِعَادَةِ الْـخَلْقِ بَعْدَ مَوْتِـهِمْ.

(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا): فَمَنِ الَّذِي خَلَقَ الشَّمْسَ الْمُضَيئَةَ؛ الَّتِـي تُضِيءُ الْـجِبَالَ وَالْبِحَارَ، وَالْمَزَارِعَ، وَتَدْخُلُ الأَغْوَارَ وَالأَسْرَابَ بِقُوَّةِ إِضَاءَةٍ هَائِلَةِ؟ لَوْ أَنْفَقَتِ الَبْشَرِيَّةُ جَـمِيعَ مُنْتَجَاتِـهَا النِّفْطِيَّةِ لإِضَاءَتِـهَا؛ لَمَا اِسْتَطَاعَتْ أَنْ تُضَيئَهَا، يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. فَكَيْفَ بِقُرُونٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؟! أَلَا يَلْفِتُ أَنْظَارَكُمْ أَنَّ الشَّمْسَ مَعَ إِضَاءَتِـهَا تَـحْمِلُ حَرَارَةً تُسَاعِدُ عَلَى نُضْجِ الثِّمَارِ، وَتُـجَفِّفُ الأَرْضَ إِذَا أَصَابَتْهَا الْمِيَاهُ، وَالأَوَانِيَ، وَالْمَلَابِسَ؛ فَهِيَ الْمُجَفِّفُ الأَوَّلُ لِعَامَّةِ الْبَشَرِيَّةِ. هَلْ تَسْتَطِيعُ دَوْلَةٌ مَهْمَا عَظُمَتْ أَنْ تَدَّعِيَ مِلْكِيَّتَهَا للشَّمْسِ أَوْ للقَمَرِ؛ فَتَحْجِبُهُمَا عَنْ غَيْـرِهَا؟ لَوْ كَانَ هَذَا بِـمَقْدُورِهَا لَفَعَلَتْ. فَهَلِ انقَطَعَتِ الشَّمْسُ، أَوْ تَوَقَّفَ الْقَمَرُ عَنِ الْـخُرُوجِ يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ لِـخَلَلٍ فَنِّـيٍّ أَوْ لأَعْمَالِ صِيَانَةٍ؟ إِنَّ الإِضَاءَاتِ الْبَشَرِيَّةَ تَعْمَلُ فَتَـرَاتٍ مُـحَدَّودَةٍ ثُـمَّ تَتْلَفُ؛ فَيُـرْمَى بَعْضُهَا، وَيُصَانُ الْبَعْضُ الآخَرُ، مَعَ كَثْرَةِ الانْقِطَاعِ فِي غَالِبِ دُولِ الْعَالَـمِ، (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).

(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا): ثُـمَّ لَفَتَ اللهُ أَنْظَارَهُمْ إِلَى الْمَاءِ الْغَزِيرِ، الْمُنْدَفِعِ بِقُوَّةٍ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّـى يَشُقَّ الأَرْضَ؛ لِينْبِتَ بِإِذْنِ اللهِ هَذِهِ الْـحُبُوبَ وَالنَّبَاتَاتِ، وَالْبَسَاتِيـنَ الْمُلْتَفَّةَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِحْيَاءُ الأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِـهَا؛ بُرْهَانٌ سَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى إِعَادَةِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ مَوْتِـهَا.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا): وَبَعْدَ مَا بَيَّـنَ اللُه الأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ بَيَّـنَ لَـهُمْ أَنَّ هُنَاكَ يَوْمًا لَهُ وَقْتٌ مُـحَدَّدٌ، لَا يَتَقَدَّمُ عَنْهُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ للفَصْلِ بَيْـنَ الْعِبَادِ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللُه، وَلَا يُـمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِنَاءً عَلَى طَلَبِ الْمُنْكِرِينَ، أَوْ أَمْزِجَتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ).

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا): فَهَذَا الْيَوْمُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ؛ وَإِنَّـمَا هِيَ نَفْخَةٌ مِنْ إِسْرَافِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِأَمْرِ اللِه؛ فَتَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ رَغْمًا عَنْكُمْ، وَالْمُنْكِرُونَ يَـخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ أَذِلَّاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ). 

(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا): فَهَذِهِ السَّمَاءُ الْمُتَمَاسِكَةُ، الَّتِـي لَا ثُقُوبَ فِيهَا، وَلَا شُقُوقَ؛ سَوْفَ تَتَحَوَّلُ إِلَى أَبْوَابٍ مِنْ أَجْلِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)

(وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا): وَسَيَأْتِي يَوْمٌ تُزَالُ هَذِهِ الْـجِبَالُ مِنَ الأَرْضِ فَلَا حَاجَةَ لَـهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)

(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا): فَهِيَ مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ، الْمُكَذِّبَيـنَ لِلْبَعْثِ؛ تَنْتَظِرُهُمْ؛ لأَنَّـهَا دَارُهُمْ، وَمَآلُـهُمْ، وَمَصِيـرُهُمْ.

(لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): يَبْقَوْنَ فِيهَا دُهُورًا مُتَتَابِعَةً، يَتَلَقَّوْنَ فِيهَا أَصْنَافًا مُتَعَدِّدَةَ مِنَ الْعَذَابِ. 

(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا): فَلَا يَـجِدُونَ فِي جَهَنَّمَ نَوْمًا وَلَا رَاحَةً، وَلَا مَاءً بَارِدًا؛ يُبَـرِّدُ السَّعِيـرَ عَلَيْهِمْ، وَيُزِيلُ الْـحُرْقَةَ عَنْ بُطُونِـهِمْ.

(إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا): فَهُنَاكَ شَرَابٌ سَيَشْرَبُونَهُ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ، لَكِنَّهُ حَـمِيمٌ (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)، وَهَذَا الْمَاءُ لَيْسَ حَارًّا فَقَطْ، بَلْ هُوَ الْغَسَّاقُ الَّذِي تَكَوَّنَ مِنْ عَرَقِ وَصَدِيدِ وَقَيْحِ وَدِمَاءِ أَهْلِ النَّارِ؛ نَتِـنٌ، كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، قَالَ تَعَالَى: (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ).

(جَزَاءً وِفَاقًا): فَهَذَا الْعَذَابُ هُوَ الْمُتَّفِقُ مَعَ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ لِرَبِّـهِمْ وَإِيذَائِهِمْ لأَوْلِيَائِهِ.

(إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا* وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا): فَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ لَـمْ يَكُنْ فِي مُـخَيِّلَتِهِمْ وُقُوعُ هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ؛ مَعَ عِظَمِ الآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِهِ كِذَّابًا، وَبَالَغُوا فِي التَّكْذِيبِ. 

 (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا): فَكُلُّ مَا عَمَلُوهُ قَدْ أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ

 (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا): فَلَنْ تَنَالُوا أَيُّهَا الضُّلَّالُ بَعَدَ الْعَذَابِ إِلَّا الْعَذَابَ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِـجَمِيعِ الْمُسْلِمِـيـنَ فَاِسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

                                               

الـخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ،وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً . أمَّا بَعْدُ ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى                                           . 

عِبَادَ اللهِ، فَإِذَا كَانَ مَا سَبَقَ مَآلَ الْمُكَذِّبِيـنَ؛ فَمَا جَزَاءُ أَهْلِ التُّقَى وَالصَّلَاحِ؟ قَالَ اللهُ عَنْهُمْ:

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا* حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا): لَقَدْ فَازَ أَهْلُ التَّقْوَى بِـهَذِهِ الْـجَنَّةِ، وَنَعِيمِهَا الْمُقِيمِ، وَمُـجَاوَرَةِ الرَّبِّ الْكَرِيـمِ، وَبِـهَذِهِ الْـحَدَائِقِ الْعَظِيمَةِ، الْمُتَعَدِّدَةِ الثِّمَارِ، وَخَصَّ الْعِنَبَ مِنْ بَيْنِهَا؛ لأَنَّهُ أَكْثَرُ الْفَوَاكِهِ إِفَادَةٍ؛ فَيُؤْكَلُ طَازِجًا، وَمُـجَفَّفًا، وَمَعْصُورًا، وَمَطْبُوخًا.

 (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا): وَسَيَفُوزُونَ أَيْضًا بِالْـحُورِيَّاتِ فَائِقَاتِ الجمَالِ، ذَوَاتِ النُّهُودِ الْمُسْتَدِيرَةِ، غَيْـرِ الْمُنْكَسِرَةِ، وَسِنُّهُنَّ وَاحِدٌ.

(وَكَأْسًا دِهَاقًا): وَسَيَشْرَبًونَ أَيْضًا أَنْوَاعَ الأَشْرِبَةِ فِي تِلْكَ الْكِيسَانِ الَّتِـي لَا تَنْقُصُ أَبَدًا، وَتَفُورُ مِنْ جَوَانِبِهَا؛ مَزِيدٌ مِنَ الْمُتْعَةِ، لَكِنَّهُ شَرَابٌ لَيْسَ كَشَرَابِ أَهْلِ الدُّنْيَا، الَّتِـي يُـخَالِطُهَا اللَّهْوُ وَالْكَذِبُ، بَلْ طُهِّرَتْ أَسْـمَاعُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ عَنِ التَّفَوُّهِ بِاللَّغْوِ وَالْكَذِبِ، أَوْ سَـمَاعِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا): فَنَالُوا هَذَا الْعَطَاءَ الَكَثِيـرَ الوَافِرَ الشَّامِلَ مِنْ اللهِ، بِلَا حِسَابٍ وَلَا حَدٍّ.

(رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ): فَهَذَا الْعَطَاءُ نَالُوهُ مِنْ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، الرَّحْـمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْـنَ يَدَيهِ؛ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ): وَانظُرْ إِلَى عِظَمِ هَذِهِ الآيَةِ، حَيْثُ سَيَقُومُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَعْدَادُهُمْ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، تَتَجَاوَزُ عَشَرَاتِ الْمِلْيَارَاتِ، إِنْ لَـمْ تَزِدْ، وَيَقُومُ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ جَـمِيعُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَقَدْ يَفُوقُونَ عَشَرَاتِ الْمِلْيَارَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ  لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَيْـنَ يَدَيِ اللهِ؛ إِجْلَالًا، وَتَعْظِيمًا للهِ، وَخَوْفًا مِنْهُ؛ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ، وَلَا يَأْذَنُ إِلَّا لأَهْلِ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ وُفِّقُوا لِقَوْلِ الْـحَقِّ، وقَالُوا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا الله). قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)

 (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا): فَهَذَا الْيَوْمُ يَوْمٌ حَقِيقِيٌّ، لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ، وَالْفُرْصَةُ مَا زَالَتْ سَانِـحَةً لِلْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ مَا دَامَتِ الأَنْفَاسُ بَاقِيَةً، وَالشَّمْسُ لَـمْ تَـخْرُجْ مِنْ مَغِيبِهَا. 

* إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) فَسَوفَ تَرَونَ أَمَامَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا قَدَّمْتُمْ مِنْ أَقْوَالٍ، وَأَفْعَالٍ، وَنَوَايَا أَحْصَاهَا اللهُ ونَسِيَهَا النَّاسُ، وَعِنْدَمَا يُشَاهِدُ الإِنْسَانُ عَمَلَهُ يَتَمَنَّـى الْكَافِرُ لَوْ أَنَّهُ لَـمْ يُـخْلَقْ فِي الأَصْلِ، وَكَانَ جَـمَادًا مِنَ الْـجَمَادَاتِ، أَوْ أَنَّهُ حُوِّلَ إِلَى تُرَابٍ كَمَا حُوِّلَتِ الْـحَيَوَانَاتُ بَعْدَ بَعْثِهَا وَالْقَصَاصِ مِنْهَا. وَهَذَا الْيَوْمُ لَيْسَ بَعِيدًا؛ بَلْ هُوَ قَرِيبٌ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وَقَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ شَرَّ الْـحَاسِدِينَ، وَحِقْدَ الْـحَاقِدِينَ! الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ ،حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، ونَسْتَعِيذُ بِكَ مِمَّا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عِبَادُكَ الصَّالِحُونَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ 

 وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...