|

16 شوّال 1445 هـ

مسابقة السيرة النبوية | استمع في دقيقة وربع إلى: " الشرك الأصغر" للدكتور/ صالح بن مقبل العصيمي التميمي | يمكنكم الأن إرسال أسئلتكم وسيجيب عليها فضيلة الشيخ الدكتور صالح العصيمي

 


الْخُطْبَةُ الْأُولَى

عِبَادَ اللهِ: مَا أَعْظَمَ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، ومَا أَطْيَبَهَا، وَأَجَلَّهَا، وَأَعْذَبَهَا، وَمِنْ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى (الْمَتِينُ)؛ الذي وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، وَمِنْ مَعَانِي الْمَتِينِ: الْمُتَنَاهِي فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ الَّذِي لَا تَنْقَطِعُ قُوَّتُهُ، وَلَا تَلْحَقُهُ فِي أَفْعَالِهِ مَشَقَّةٌ، وَلَا يَمَسُّهُ لُغُوبٌ. وَلَاحِظِ التَّنَاسُقَ الْعَجِيبَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الآية: "الرَّزَّاقُ - ذُو الْقُوَّةِ - الْمَتِينُ"؛ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى كَمَالٍ فِي الْقُوَّةِ، وَتَنَاهٍ فِي الْقُدْرَةِ، وَفِي شِدَّةِ الْقُوَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذُو الْقَوَّةِ الْمَتِينَ لَمَا كَانَ هُوَ الرَّزَّاقَ الْمُتَكَفِّلَ بِجَمِيعِ رِزْقِ الْخَلْقِ، فَمِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ أَوْصَلَ رِزْقَهُ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْنَعَهُ أَنْ يُوصِلَ رِزْقَهُ لِأَحَدٍ، أَوْ يَحُولَ بينه وبين خَلْقِه، فَلا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ أَنْ يُوصِلَ رِزْقَهُ لِإِنْسَانٍ مَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ قُوَّةً تُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْقُوَّةُ لِلهِ تَعَالَى جَمِيعًا.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّكَ حِينَمَا تَتَأَمَّلُ فِي اسْمِ الْمَتِينِ، وَتَتَدَبَّرُهُ، تَشْعُرُ بِعَظَمَةِ اللهِ، وَقُوَّتِهِ، وَبِحُسْنِ الْمَلَاذِ إِلَيْهِ، وَاللُّجُوءِ إِلَيْهِ، فَأَنْتَ تَبُثُّ شَكْوَاكَ لِمَتِينٍ؛ فَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قُوَّتُهُ مُتَمَاسِكَةٌ، لَيْسَ لِلنَّقْصِ فِيهَا مَجَالٌ؛ فَهُوَ الْمَتِينُ الَّذِي فَاقَ بِقُوَّتِهِ قُوَّةَ الْآخَرِينَ وَلَوِ اجْتَمَعَتْ، وَالْمَتِينُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا؛ فَهُوَ فِي إِحْقَاقِ الْحَقِّ لَا يَلِينُ، وَفِي إِرْهَاقِهِ وَإزْهَاقِهِ الْبَاطِلَ لَا يَلِينُ، وَفِي هَيْمَنَتِهِ لَا يَلِينُ، وَلِأَنَّ اللهَ هُوَ الْمَتِينُ فَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَلِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمَتِينُ جَعَلَ لِكُلِّ قُوَّةٍ بَعْدَ قُوَّتِهِ ضَعْفًا، وَلِكُلِّ قُوَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ زَوَالًا، وَلِكُلِّ قُوَّةٍ مَهْمَا طَغَتْ وَتَجَبَّرَتْ هَزِيمَةً وَخُسْرَانًا.

عِبَادَ اللهِ: سَادَتِ الْعَالَمَ إِمْبِرَاطُورِيَّاتٌ ظَنَّهَا النَّاسُ بِمَتَانَةٍ؛ لَكِنَّ سُرْعَانَ مَا زَالَتْ، وَأَصْبَحَتْ أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ، وَحَدَثًا عَابِرًا، وَلَوْ لَمْ يُدَوِّنْهُ التَّارِيخُ مَا عَلِمَ عَنْهَا أَحَدٌ، وَكَانَ يَظُنُّ مَن عَاشَ أَوْجَ مَجْدِهَا أَنَّهَا لَنْ تَزُولَ أَوْ تَنْهَارَ، أَوْ يُصِيبَهَا الضَّعْفُ وَالانْكِسَارُ! فَكُلُّ مَخْلُوقٍ مَهْمَا قَوِيَ يَضْعُفُ، وَكُلُّ قَوِيٍّ مَهْمَا اشْتَدَّتْ قُوَّتُهُ يَنْهَارُ، إِلَّا الْقَوِيَّ الْمَتِينَ الْجَبَّارَ، فَاللهُ هُوَ الْمَتِينُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، ذَو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ، وَلِأَنَّهُ الْمَتِينُ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَجَعَلَ حِرَاسَةَ السَّمَاءِ شَدِيدَةً؛ حَيْثُ مُلِئَتْ حَرَسًا وَشُهُبًا، وَاللهُ هُوَ الْمَتِينُ، فَقَامَتْ بِأَمْرِهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ.

عِبَادَ اللهِ: وَلِأَنَّهُ الْمَتِينُ خَافَتْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَخَضَعَتْ لِأَمْرِهِ الْجِبَالُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَاللهُ هُوَ الْمَتِينُ؛ فَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ الْمَعَارِفِ وَالْمَعْلُومَاتِ، وَيَقْهَرُ وَلَا يُقْهَرُ، وَيَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ؛ فَتَبَارَكَ اللهُ الْمَتِينُ بِقُوَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْقَوِيُّ الْمَتيِنُ.

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى شَيْئًا ذَا جَوْدَةٍ وَقُوَّةٍ وَصَفَهُ بِالْمَتَانَةِ، فَيِقُولُ: هَذِهِ الْجِبَالُ مَتِينَةٌ، وَهَذا الْبِنَاءُ مَتِينٌ، وَهَذَا الاقْتِصَادُ مَتِينٌ، وِإِذَا حَرَّرَ عَالِمٌ مَسْأَلَةً عِلْمِيَّةً تَحْرِيرًا بَلِيغًا قَوِيًّا، قَالُوا: هَذَا قَوْلٌ مَتِينٌ؛ لِيُثْبِتُوا الْمَتَانَةَ لِلصَّانِعِ إِعْجَابًا بِهِ، فَكَيْفَ بِاللهِ تَعَالَى الَّذِي اسْمُهُ الْمَتيِنُ!

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ آثَارِ مَعْرِفَةِ اسْمِ اللهِ الْمَتِينِ، وَتَيَقَّنْتَ مِنْ ذَلِكَ؛ قَادَكَ هَذَا أَنْ تَقْطَعَ الرَّجَاءَ بِمَنْ سِوَاهُ، وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَتِينُ، وَالْأَمْرَ بِيَدِهِ وَحْدَهُ لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا شَرِيكَ لَهُ؛ تَزُولُ مِنْ قَلْبِهِ كُلُّ الْمَخَاوِفِ، وَتَتَبَدَّدُ أَمَامَ نَاظِرِهِ كُلُّ الْعَقَبَاتِ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْطَعَ الْأَمَلَ بِغَيْرِ مِنَ اللهِ، وَالرَّجَاءَ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ مِنْ مِنَنِ اللِه تَعَالَى عَلَيْنَا؛ حَيْثُ مَلْجَأُنَا إِلَى وَاحِدٍ، وَمَلَاذُنَا إِلَى الْوَاحِدِ، كَمَا يَدُلُّنَا هَذَا الاسْمُ أَنْ نَطْمَئِنَّ وَنَرْتَاحَ مَهْمَا بَلَغَ كَيْدُ خَصْمِكَ وَقُوَّتُهُ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَمَامَ قُوَّةِ اللهِ، وَمَكْرِهِ، وَكَيْدِهِ، قَاَل تَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} فَلَا مَجَالَ لِكَيْدِهِمْ أَمَامَ كَيْدِ الْمَتِينِ.

عِبَادَ اللهِ: كَمَا يُفِيدُ هَذَا الاسْمُ أَنْ يَتَوَاضَعَ الْأَقْوِياَءُ، وَلَا يَغْتَرُّوا بِقُوَّتِهِمْ، فَقُوَّتُهُمْ أَمَامَ قُوَّةِ اللهِ لَا شَيْءَ، فَإِذَا كُنْتَ ضَعِيفًا، وَرَبُّك الْقَوِيُّ الْمَتِينُ، فَلَا تَخَفْ؛ لِأَنَّكَ عَبْدُ الْمَتِينِ، وَلَنْ يُخْذَلَ عَبْدٌ، وَلَنْ يُذَلَّ، وَلَنْ يُهَانَ إِذَا وَحَّدَ الرَّحْمَنَ، فَإِذَا كَانَ مَوْلَاكَ الْمَتِينَ يَجِبُ أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُكَ بِالسُّرُورِ، وَيَجْعَلَكَ تَشْعُرُ بِأَنَّكَ أَقْوَى النَّاسِ، وَأَغْنَى النَّاسِ.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ اسْمَ اللهِ الْمَتَينِ يُرْشِدُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَكُونَ رَحِيمًا بِغَيْرِهِ، رَفِيقًا بِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الْمَتِينُ قَدْ رَحِمَهُ، وَأَعْطَاهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ؛ فَأَنْتَ أَحْوَجُ إِلَى أَنْ تَبْذُلَ وتُعْطِيَ، فَلَا تَظْلِمْ، وَلَا تَطْغَ، فِإِن كُنْتَ قَوِيًّا أَمَامَ ضَعِيفٍ فَاللهُ أَقْوَى مِنْكَ، فَتَذَكَّرْ قُوَّةَ اللهِ أَمَامَ قُوَّتِكَ؛ حَتَّى تَعْرِفَ حَجْمَكَ الطَّبِيعِيَّ، وَوَزْنَكَ الْحَقِيقِيَّ، فَلَا تُظْهِرْ قُوَّتَكَ أَمَامَ ضُعَفَاءَ مِنْ عُمَّالٍ وَغَيْرِهِمْ؛ فَاللهُ أَقْوَى مِنْكَ، وَأَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِمْ.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْفَهْمَ الْعَمِيقَ لاسْمِ الْمَتِينِ يُرْشِدُ الْعَبْدَ لِلتَّوَاضُعِ، وَيَقُودُهُ إِلَيْهِ؛ وَهُوَ الَّذِي إِذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ ارْتَاحَ، وَاطْمَأَنَّ، وَأَفْلَحَ، وَفَازَ، وَإِلَّا فَهُوَ الْخَاسِرُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ.