|

10 شوّال 1445 هـ

مسابقة السيرة النبوية | استمع في دقيقة وربع إلى: " الشرك الأصغر" للدكتور/ صالح بن مقبل العصيمي التميمي | يمكنكم الأن إرسال أسئلتكم وسيجيب عليها فضيلة الشيخ الدكتور صالح العصيمي

 

الْخُطْبَةُ الْأُولَى

* عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْنَا نِعْمَةَ الْأَصْحَابِ؛ فَالْأَصْحَابُ الْأَخْيَارُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمُثَبِّتِينَ عَلَى دِينِ اللهِ، خَاصَّةً فِي أَوْقَاتِ الْقَلَاقِلِ وَالْفِتَنِ. وَلَقَدْ وَقَفَ مَعَ النَّبِيِّ فِي مِحْنَتِهِ أَصْحَابُهُ الْكِرَامُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم-، فَفَدَوْهُ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَهَا هُوَ الصِّدِّيقُ أَفْضَلُ أَصْحَابِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَخْشَى عَلَى الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْهِجْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى ثَبَّتَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ -كَمَا حَكَى اللهُ عَنْهُ-: {إِذَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}؛ فَلَا غُنْيَةَ لِـلْإِنْسَانِ عَنِ الْأَصْحَابِ مَهْمَا حَدَثَ مِنْهُمْ مَنْ مُنَغِّصَاتٍ أَوْ مُكَدِّرَاتٍ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)). [رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ]. 

وَلَقَدْ حَثَّ اللهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مُجَالَسَةِ الْأَخْيَارِ، فَقَالَ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}. فَالْأَصْحَابُ الْأَخْيَارُ عَلَامَتُهُمْ وَاضِحَةٌ، وَسِيمَاهُمْ بَيِّنَةٌ، وَمَعْرِفَتُهُمْ يَسِيرَةٌ، إِنَّهُم أَعْمِدَةُ الْمَسَاجِدِ الَّذِينَ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِهَا، وَهَوَتْ أَفْئِدَتُهُمْ إِلَيْهَا لَا يَتَأَخَّرُونَ عَن جُمْعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ، فَهُمْ -واللهِ-مِنْ زِينَةِ الْحَيَاةِ وَمَنِ مَتَاعِهَا الْحَسَنِ.

 

سَلَامٌ عَلَى الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَا


صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الْوَعْدِ مُنْصِفٌ


فَالْقَرِينُ يُعْرَفُ بِقَرِينِهِ، وَالْجَلِيسُ بِجَلِيسِهِ.

عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ


صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الْوَعْدِ مُنْصِفٌ


 

فَالْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِطَبْعِهِ لَابُدَّ لَهُ مِنْ أَصْحَابٍ وَجُلَسَاءَ، يُسْعِدُوهُ فِي خُلْوَتِهِ، وَيُؤْنِسُوهُ فِي وَحْشَتِهِ، وَيَقِفُونَ مَعَهُ فِي فَرَحِهِ وَتَرَحِهِ؛ فَلَقَدْ جَبَلَ اللهُ النَّاسَ عَلَى الْمُخَالَطَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالتَّعَارُفِ، قَالَ -تَعَالَى-: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. 

فَالْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إِلَى الصَّاحِبِ حَتَّى تَصْلُحَ أُمُورُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ وَلِذَا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا)). [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ]. 

وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((خَيْر الأَصْحَاب عِنْدَ اللهِ، خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عِنْدَ اللهِ خيرهم لجاره)). [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ]. 

قَالَ عُمَر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: ((عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الصِّدْقِ؛ فَعِشْ فِي أَكْنَافِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ زِينَةٌ فِي الرَّخَاءِ، وَعُدَّةٌ فِي الْبَلَاءِ، وَضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَجِيئَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ، وَاعْتَزَلْ عَدُوَّكَ، وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ؛ إِلَّا الْأَمِينَ مِنَ الْقَوْمِ، وَلَا أَمِينَ إِلَّا مَنْ خَشِيَ اللهَ؛ فَلَا تَصْحَبِ الْفَاجِرَ، فَتَتَعَلَّمْ مِنْ فُجُورِهِ، وَلَا تُطْلِعْهُ عَلَى سِرِّكَ، وَاسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ تَعَالَى)). 

فَلْيَجْتَهِدِ الْإِنْسَانُ فِي صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُحْجِمُونَكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَيُعِينُونَكَ عَلَى أُمُورِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ الْأَشْرَارِ؛ فَهُمْ أَعْدَاؤُكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}. 

وَصَاحِبْ تَقِيًّا عَالِمًا؛ تَنْتَفِعْ بِهِ


فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ


وَإِيَّاكَ وَالْفُسَّادَ لَا تَصْحَبَنَّهُمْ


فَصُحْبَتُهُمْ تُعْدِي وَذَاكَ مُجَرَّبُ


وَاحْذَرْ مُؤَاخَاةَ الدَّنِيءِ؛ فَإِنَّهُ


يُعْدِي كَمَا يُعْدِي الصَّحِيحَ الْأَجْرَبُ


وَاخْتَرْ صَدِيقَكَ وَاصْطَفِيهِ تَفَاخُرًا


إِنَّ الْقَرِينَ إِلَى الْمُقَارِنِ يُنْسَبُ


 

فَعَلَى الشَّبَابِ وَآبَائِهِمْ أَنْ يَنْتَقُوا الْأَصْحَابَ وَيَجْتَبُوهُمْ؛ فَهُمْ -بِحَوْلِ اللهِ- حِصْنٌ متين، وَسِيَاجٌ سَمِيكٌ يَحْفَظُ اللهُ بِهِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارَ مِنَ الْفِتَنِ الْمُتَوَالِيَةِ وَتَقَلُّبَاتِ الزَّمَانِ الْمَعْرُوفَةِ. رَزَقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ خِيرَةَ الْأَصْحَابِ وَجَعَلَنَا أَصْحَابًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}، وَجَعَلَنَا إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ. 

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأسَتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ...

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ آثَارَ الصَّدِيقِ الصَّالِحِ لَيْسَتْ فِي الدُّنْيَا فَقَطْ، بَلْ حَتَّى فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْأَصْدِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُمْ شُفَعَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وَاسْتَشْهَدَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ بِشَفَاعَةِ الْأَصْحَابِ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. قَالَ الْإِمَامُ البَغَوِيُّ بقوله تعالى: ((مَنْ يَشْفَعْ لَنَا؟ يَقُولُهَا الْكُفَّارُ حِينَ تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالصَّدِيقُ الصَّادِقُ فِي الْمَوَدَّةِ بِشَرْطِ الدِّينِ، فَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) فِي حَدِيثِ: ((هَلْ نَرَى رَبّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وَفِيهِ: ((يَقُولُونَ: ((رَبَّنَا! إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا!))، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: ((اذْهَبُوا؛ فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ؛ فَأَخْرِجُوهُ))، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ؛ فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: ((اذْهَبُوا؛ فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ؛ فَأَخْرِجُوهُ))، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: ((اذْهَبُوا؛ فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ؛ فَأَخْرِجُوهُ))، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا)). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: ((فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي؛ فَاقْرَءُوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا})) رواه البخاري. 

كَمَا أَنَّ مَنْ آثَارَ الصُّحْبَةِ الْجَيِّدَةِ: الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ وَالذِّكْرُ الْعَاطِرُ؛ وَلِذَلِكَ: جَعَلَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بِرِّ الْوَلَدِ بِوَالِدِهِ أَنْ يَبَرَّ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ، حَيْثُ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ: صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ!)). [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِوَلَدِ الشَّافِعِيِّ: ((أَبُوكَ مِنَ السِّتَّةِ الَّذِينَ أَدْعُو لَهُمْ كُلَّ لَيْلَةٍ وَقْتَ السَّحَرِ)). 

فتجدُ الصَّاحِبَ الْوَفِيَّ الْمُخْلِصَ، يَدْعُو لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ، فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، ودعوة الغائب للغائب يستجاب كما صح في ذلك الحديث. 

فَالْأَصْدِقَاءُ الْأَخْيَارُ كَنْزٌ لَا يُقَدَّرُ بِثَمَنٍ فَاسْتَكْثِرُوا مِنْهُمْ وَلَا تَزْهَدُوا بِمُجَالَسَتِهِمْ، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ هُدَاةً مُهْتَدِينَ لَا ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ، وَرَزَقَنَا اللهُ وإياكم صُحْبَةَ الْأَخْيَارِ وَوَقَانَا صُحْبَةَ الْأَشْرَارِ.